سورة النمل - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)}
اعلم أن في قوله تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا} دلالة على أنها عزمت على اللحوق بسليمان، ودلالة على أن أمر ذلك العرش كان مشهوراً، فأحب أن يحصل عنده قبل حضورها، واختلفوا في غرض سليمان عليه السلام من إحضار ذلك العرض على وجوه:
أحدها: أن المراد أن يكون ذلك دلالة لبلقيس على قدرة الله تعالى وعلى نبوة سليمان عليه السلام، حتى تنضم هذه الدلالة إلى سائر الدلائل التي سلفت.
وثانيها: أراد أن يؤتى بذلك العرش فيغير وينكر، ثم يعرض عليها حتى أنها هل تعرفه أو تنكره، والمقصود اختبار عقلها، وقوله تعالى: {قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى} [النمل: 41] كالدلالة على ذلك.
وثالثها: قال قتادة: أراد أن يأخذه قبل إسلامها، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها.
ورابعها: أن العرش سرير المملكة، فأراد أن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه.
أما قوله: {قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الجن} فالعفريت من الرجال الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه، ومن الشياطين الخبيث المارد.
أما قوله: {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} فالمعنى من مجلسك، ولا بد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت، فقيل المراد مجلس الحكم بين الناس، وقيل الوقت الذي يخطب فيه الناس، وقيل إلى انتصاف النهار.
وأما قوله: {لَقَوِىٌّ} أي على حمله {أَمِينٌ} آتي به كما هو لا أختزل منه شيئاً.
أما قوله: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب} ففيه بحثان:
الأول: اختلفوا في ذلك الشخص على قولين: قيل كان من الملائكة، وقيل كان من الإنس، فمن قال بالأول اختلفوا، قيل هو جبريل عليه السلام، وقيل هو ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، ومن قال بالثاني اختلفوا على وجوه:
أحدها: قول ابن مسعود: إنه الخضر عليه السلام.
وثانيها: وهو المشهور من قول ابن عباس: إنه آصف بن برخيا وزير سليمان، وكان صديقاً يعلم الاسم الأعظم إذا دعا به أجيب.
وثالثها: قول قتادة: رجل من الإنس كان يعلم اسم الله الأعظم.
ورابعها: قول ابن زيد: كان رجلاً صالحاً في جزيرة في البحر، خرج ذلك اليوم ينظر إلى سليمان.
وخامسها: بل هو سليمان نفسه والمخاطب هو العفريت الذي كلمه، وأراد سليمان عليه السلام إظهار معجزة فتحداهم أولاً، ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت، وهذا القول أقرب لوجوه:
أحدها: أن لفظة (الذي) موضوعة في اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفه بقصة معلومة والشخص المعروف بأنه عنده علم الكتاب هو سليمان عليه السلام، فوجب انصرافه إليه، أقصى ما في الباب أن يقال، كان آصف كذلك أيضاً لكنا نقول إن سليمان عليه السلام، كان أعرف بالكتاب منه لأنه هو النبي، فكان صرف هذا اللفظ إلى سليمان عليه السلام أولى الثاني: أن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية، فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك تفضيل آصف على سليمان عليه السلام، وأنه غير جائز الثالث: أن سليمان عليه السلام، لو افتقر في ذلك إلى آصف لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق الرابع: أن سليمان قال: {هذا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} وظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان.
البحث الثاني: اختلفوا في الكتاب، فقيل اللوم المحفوظ، والذي عنده علم منه جبريل عليه السلام. وقيل كتاب سليمان، أو كتاب بعض الأنبياء، ومعلوم في الجملة أن ذلك مدح، وأن لهذا الوصف تأثيراً في نقل ذلك العرش، فلذلك قالوا إنه الاسم الأعظم وإن عنده وقعت الإجابة من الله تعالى في أسرع الأوقات.
أما قوله تعالى: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} ففيه بحثان:
الأول: (آتيك) في الموضعين، يجوز أن يكون فعلاً واسم فاعل.
الثاني: اختلفوا في قوله: {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} على وجهين:
الأول: أنه أراد المبالغة في السرعة، كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة، وهذا قول مجاهد الثاني: أن نجريه على ظاهره، والطرف تحريك الأجفان عند النظر، فإذا فتحت الجفن فقد يتوهم أن نور العين امتد إلى المرئي، وإذا أغمضت الجفن فقد يتوهم أن ذلك النور ارتد إلى العين، فهذا هو المراد من ارتداد الطرف وهاهنا سؤال: وهو أنه كيف يجوز والمسافة بعيدة أن ينقل العرش في هذا القدر من الزمان، وهذا يقتضي إما القول بالطفرة أو حصول الجسم الواحد دفعة واحدة في مكانين جوابه: أن المهندسين قالوا كرة الشمس مثل كرة الأرض مائة وأربعة وستين مرة، ثم إن زمان طلوعها زمان قصير فإذا قسمنا زمان طلوع تمام القرص على زمان القدر الذي بين الشام واليمن كانت اللمحة كثيرة فلما ثبت عقلاً إمكان وجود هذه الحركة السريعة، وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات زال السؤال، ثم إنه عليه السلام لما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر والكلام في تفسير الابتلاء قد مر غير مرة، ثم إنه عليه السلام بين أن نفع الشكر عائد إلى الشاكر لا إلى الله تعالى، أما أنه عائد إلى الشاكر فلوجوه:
أحدها: أنه يخرج عن عهدة ما وجب عليه من الشكر.
وثانيها: أنه يستمد به المزيد على ما قال: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبرهيم: 7].
وثالثها: أن المشتغل بالشكر مشتغل باللذات الحسية وفرق ما بينهما كفرق ما بين المنعم والنعمة في الشرف، ثم قال: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ} غني عن شكره لا يضره كفرانه، كريم لا يقطع عنه نعمه بسبب إعراضه عن الشكر.


{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)}
اعلم أن قوله: {نَكّرُواْ} معناه اجعلوا العرش منكراً مغيراً عن شكله كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه، وذلك لأنه لو ترك على ما كان لعرفته لا محالة، وكان لا تدل معرفتها به على ثبات عقلها وإذا غير دلت معرفتها أو توقفها فيه على فضل عقل، ولا يمتنع صحة ما قيل إن سليمان عليه السلام ألقى إليه أن فيها نقصان عقل لكي لا يتزوجها أو لا تحظى عنده على وجه الحسد، فأراد بما ذكرنا اختبار عقلها.
أما قوله: {نَنظُرْ} فقرئ بالجزم على الجواب وبالرفع على الاستئناف، واختلفوا في {أَتَهْتَدِى} على وجهين:
أحدهما: أتعرف أنه عرشها أم لا؟ كما قدمنا الثاني: أتعرف به نبوة سليمان أم لا ولذلك قال: {أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} وذلك كالذم ولا يليق إلا بطريقة الدلالة، فكأنه عليه السلام أحب أن تنظر فتعرف به نبوته من حيث صار متنقلاً من المكان البعيد إلى هناك، وذلك يدل على قدرة الله تعالى وعلى صدق سليمان عليه السلام، ويعرف بذلك أيضاً فضل عقلها لأغراض كانت له، فعند ذلك سألها.
أما قوله: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} فاعلم أن هكذا ثلاث كلمات، حرف التنبيه وكاف التشبيه واسم الإشارة، ولم يقل أهذا عرشك، ولكن أمثل هذا عرشك لئلا يكون تلقيناً فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} ولم تقل هو هو ولا ليس به وذلك من كمال عقلها حيث توقفت في محل التوقف.
أما قوله: {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا} ففيه سؤالان، وهو أن هذا الكلام كلام من؟ وأيضاً فعلى أي شيء عطف هذا الكلام؟ وعنه جوابان: الأول: أنه كلام سليمان وقومه، وذلك لأن بلقيس لما سئلت عن عرشها، ثم إنها أجابت بقولها: {كَأَنَّهُ هُوَ} فالظاهر أن سليمان وقومه قالوا إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام، ثم عطفوا على ذلك قولهم وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته قبل علمها ويكون غرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزية التقدم في الإسلام الثاني: أنه من كلام بلقيس موصولاً بقولها: {كَأَنَّهُ هُوَ} والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة أو قبل هذه الحالة، ثم أن قوله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} إلى آخر الآية يكون من كلام رب العزة.
أما قوله تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} ففيه وجهان:
الأول: المراد: وصدها عبادتها لغير الله عن الإيمان الثاني: وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل، وقرئ أنها بالفتح على أنه بدل من فاعل صد وبمعنى لأنها، واحتجت المعتزلة بهذه الآية فقالوا لو كان تعالى خلق الكفر فيها لم يكن الصاد لها كفرها المتقدم ولا كونها من جملة الكفار، بل كان يكون الصاد لها عن الإيمان تجدد خلق الله الكفر فيها والجواب: أما على التأويل الثاني فلا شك في سقوط الاستدلال، وأما على الأول فجوابنا أن كونها من جملة الكفار صار سبباً لحصول الداعية المستلزمة للكفر، وحينئذ يبقى ظاهر الآية موافقاً لقولنا، والله أعلم.


{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}
اعلم أنه تعالى لما حكى إقامتها على الكفر مع كل ما تقدم من الدلائل ذكر أن سليمان عليه السلام أظهر من الأمر ما صار داعياً لها إلى الإسلام وهو قوله: {قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح} والصرح القصر كقوله: {ياهامان ابن لِى صَرْحاً} [غافر: 36] وقيل صحن الدار، وقرأ ابن كثير عن {سَأقَيْهَا} بالهمز ووجهه أنه سمع سؤقاً فأجرى عليه الواحد، والممرد المملس، روي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض كالماء بياضاً، ثم أرسل الماء تحته وألقى فيه السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الإنس والجن والطير، وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحققاً لنبوته، وزعموا أن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية، وقيل خافوا أن يولد له منها ولد فيجتمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد، فقالوا إن في عقلها نقصاناً وإنها شعراء الساقين ورجلها كحافر حمار فاختبر سليمان عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليتعرف ساقها، ومعلوم من حال الزجاج الصافي أنه يكون كالماء فلما أبصرت ذلك ظنته ماءاً راكداً فكشفت عن ساقيها لتخوضه، فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً، وهذا على طريقة من يقول تزوجها، وقال آخرون كان المقصود من الصرح تهويل المجلس وتعظيمه، وحصل كشف الساق على سبيل التبع، فلما قيل لها هو صرح ممرد من قوارير استترت، وعجبت من ذلك واستدلت به على التوحيد والنبوة، فقالت: {رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} فيما تقدم بالثبات على الكفر ثم قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبّ العالمين} وقيل حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة، فقالت ظلمت نفسي بسوء ظني سليمان، واختلفوا في أنه هل تزوجها أم لا، وأنه تزوجها في هذه الحال أو قبل أن كشفت عن ساقيها، والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته، ويروى عن ابن عباس أنها لما أسلمت قال لها اختاري من قومك من أزوجك منه فقالت مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال النكاح من الإسلام، فقالت إن كان كذلك فزوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكاً، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8